المغرب العربي : في الاتحاد قوة ورخاء وفي غيره ضلال وشقاء
بقلم د. كمال أكوجكال
أستاذ باحث بجامعة القاضي عياض
يؤمن المغرب بأن في الاتحاد قوة، لا سيما بين
الجيران، كما يؤمن أن الشقاق بين الأشقاء وانشقاقهم عن بعضهم لن يجلب سوى الشقاء
لشعوب المنطقة على كافة المستويات. ليس من قبيل الصدف إذن أن تتبلور فكرة تأسيس
اتحاد المغرب العربي سنة 1958 في مدينة طنجة المغربية، وأن يرى هذا الاتحاد
الإقليمي النور يوم 17 فبراير 1989 بمدينة مراكش، وأن يقع اختيار مدينة الرباط
عاصمة له.
خمس سنوات بعد تأسيس الاتحاد أغلقت الجزائر حدودها
البرية مع المغرب (حوالي 1600 كيلومتر) ردا على فرضه التأشيرة على المواطنين
الجزائريين على خلفية أحداث أطلس أسني الإرهابية بذات المدينة التي شهدت ميلاد
الاتحاد. عادت الجزائر بذلك إلى غيها وذكرت شعبي البلدين بما أقدمت عليه سنة 1975
بتهجيرها لآلاف المغاربة وذوي الأصول المغربية القاطنين بها صبيحة يوم عيد الأضحى
المبارك، بل وقطعها للأرحام بين أفراد الشعبين ردا على تنظيم المغرب للمسيرة
الخضراء المظفرة.
ودرءاً للصدع والشقاق، ولأن الأمر يتعلق
بشقيقته، قام المغرب بمبادرة من عاهله سنوات قليلة بعد جلوسه على العرش بإلغاء
التأشيرة على إخواننا في الجزائر ودعا الرئيس الجزائري إلى فتح الحدود، فأبى وأبى
وتمادى في رفضه لعروض المملكة. لم يكل ملك المغرب مع ذلك من دعوة الشقيقة الشرقية
للعودة إلى جادة الصواب، بل أفرد لعلاقته معها جزءاً غير يسير من آخر خطاب للعرش
فند فيه كل الادعاءات المغرضة وكافة المبررات الواهية التي يأتي على ذكرها حكام
الجزائر. لكن، جريا على عادتها، رفضت الجزائر من جديد اليد الممدودة إليها، علما
أنها في أمس الحاجة لمن ينتشلها من مستنقع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية
والوبائية والسياسية الخانقة، بل أكثر من ذلك ردت على الدعوة بكيل اتهامات خطيرة للمغرب
وقطع علاقاتها معه، وإغلاق مجالها الجوي في وجه طائراته، وقطع إمداداتها من الغاز
عليه وأتاوى عبوره للجارة الشمالية... إنه العبث في كل تجلياته.
هو ود بلا حدود ذلك الذي ترد عليه جارتنا بالباب المسدود، ود يكاد يوصف بأنه حب من طرف واحد...
إن المغرب يعي جيدا بأن جارته تعاني
من شرور داخلية عدة ولا يخطب ودها لسواد عيونها، فهي شقيقته في نهاية المطاف، ذلك
أن استقرار المنطقة المغاربية رهين باستمرار استقرارها الذي تكاد تعصف به توترات
داخلية كبرى جراء تدني سعر الدينار مقابل اليورو إلى مستويات قياسية وتفشي ظواهر
البطالة والهجرة السرية وغيرها من المعضلات الاجتماعية والاقتصادية القاسية، فضلا
عن الأزمة الصحية... وإذا تودد المغرب لجارته فليس لأنه في حاجة إليها أو إلى
غازها، وإنما سعيا لصون ما تبقى من اتحاد المغرب العربى وتجنيب البلاد والعباد،
وهم أشقاؤنا، تفاقم المآسي وتدهور الأوضاع بشكل يجعل نجدتها مما تعيشه وانتشالها
مما تعانيه أمرا مستحيلا.
ليس من شيم المغرب أن يشمت بما أصاب أشقائه.
فالمغاربة والجزائريون والتونسيون والليبيون والموريتانيون، بل باقي دول الجوار،
يشكلون كيانا وجسدا وشعبا واحدا، توحد بينهم أحداث التاريخ والنضال المشترك
والتعاون البناء الراسخ في الأذهان وأواصر المحبة والإخاء والتضامن رغم كيد
الكائدين وتعنت بعض الظالمين، لأنفسهم قبل غيرهم. ولأن بلدان اتحاد المغرب العربي
يشكلون جسدا واحدا فإن المغرب يحز في نفسه، بل يتألم بكل تأكيد، جراء العلل التي أصابت
الجزء الأيسر من هذا الجسد: اختناق "اقتصادي" في الرئة اليسرى (الجزائر)
ووعكة سياسية في الكتف (تونس) وتعاف مستعص لانكسارات متوالية للساعد (ليبيا).
من يحكم الجزائر، أكبر دول الاتحاد وأقواها اقتصاديا إلى جانب المغرب، يريد إقبار ود ومحبة وإخاء لا حدود له وحلم لا مناص منه.
ها هو الاتحاد الأوربي، على الرغم من اختلاف لغات وتاريخ مكوناته
السياسية، قد نجح في تشكيل اتحاد اقتصادي قوي بزعامة فرنسا وألمانيا اللتين لم
تكونا دائما على وفاق. أما نحن، نحن الشعوب التي تؤمن بمبادئ الإيثار وبقيم الجوار
المستمدة من تعاليم الإسلام، ما زلنا ننتظر أن يتوارى بعض الحاقدين الأغبياء عن
السلطة لرفع كافة التحديات وبلوغ الرخاء... ألن تكون الجزائر أول من يجني ثمار
تفعيل الاتحاد؟ بلا، يقول المحللون حول العالم، وأولهم أبناء الجزائر، الذين بقدر
ما فاجأهم خطاب العرش الأخير بقدر ما استبشر بعضهم خيرا بمضامينه آملين أن تغتنم
بلادهم الفرصة التاريخية وتطوي صفحات الأحقاد إلى الأبد.
لكن الشقيقة الشرقية فضلت الاختناق وصدت أنابيب
الأوكسجين الممدودة إليها، بل حاولت عزل المغرب...وبذلك ظلمت نفسها وشعبها، إذ لم
تنجح سوى في عزل نفسها، وأضحت بسبب رعونة ما أقدمت عليه مثار سخرية في العالم
بأسره. تعنت أسبابه لا تخفى على أحد. لا يمكن حجب شمس الحقيقة الساطعة بغرابيل
حكام الجزائر الذين يصورون لشعبهم الشقيق أن المغرب عدو، وما هو بعدو، وأنه مصدر
الشرور، وأنه يخطب ود الجزائر لأنه يعاني ضائقة ما. والحقيقة خلاف ذلك تماما.
فالمغرب خطا منذ فجر الألفية الثالثة خطى عظمى نحو النماء والازدهار وانبرى إلى
مسيرة نحو تنمية شاملة ومندمجة رغم شح موارده...
سارت المملكة المغربية بسرعة البرق في اتجاه
التنمية، التي يمثل "البراق"، أسرع قطار في افريقيا بأسرها، أحد
إنجازاتها الباهرة وأحد المؤشرات القوية على إرادة المغرب السير بوتيرة نمو
متسارعة وعزمه على الاستجابة لتطلعات شعبه في كافة المجالات. ولعل أبلغ مثال على
ذلك تدبيره الاستباقي الناجح بكل المقاييس لجائحة هزت وفاجأت أعظم الدول وما دونها
في كافة بقاع العالم، وتنظيمه المحكم لحملات التلقيح وتصدره ترتيب الدول الافريقية في هذا المجال.
واصل المغرب دون كلل إنجازاته في مجالات متعددة،
ودون تمييز بين جهاته، بل جعل في وقت وجيز من جهات الصحراء القاحلة واحات خلابة
وفضاءات تستقطب الاستثمارات من كافة بلدان المعمور. أوراش تنموية كبرى، طرق، موانئ، استثمارات ضخمة، تشجيع للاقتصاد
الأخضر والأزرق والتنمية الرقمية وغيرها من المجالات التي أبدع فيها بعد أن كان
سباقا لاعتماد أسسها إقليميا وقاريا. وفي غضون ذلك عاد المغرب إلى الاتحاد
الافريقي بعد فتوحات اقتصادية في القارة السمراء أذهلت العالم برمته. حرر معبر
الكركرات وعمل على ضمان تدفق السلع ومرور الناس بكل أمان وسلاسة بينه وبين موريتانيا
الشقيقة وباقي الدول الافريقية...
وفي غفلة من الجميع، انتزع اعتراف أقوى دولة في العالم بسيادته على صحرائه.
إن المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها، بل إن
المغرب في دياره وبيته الإفريقي، بعد أن كل من سياسة "الكرسي الفارغ"
التي دامت أزيد من ثلاثين سنة. "كم هو جميل هذا اليوم، الذي أعود فيه إلى
البيت، بعد طول غياب! كم هو جميل هذا اليوم، الذي أحمل فيه قلبي ومشاعري إلى
المكان الذي أحبه! فإفريقيا قارتي، وهي أيضا بيتي". هكذا استهل جلالة الملك
يوم 31 يناير 2017 خطابه السامي بمناسبة القمة الثامنة والعشرين لقادة دول ورؤساء
حكومات بلدان الاتحاد الافريقي التي احتضنتها العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. كم
كان سيسعد شعوب المغرب العربي لو أن خطابا مماثلا صدح في إحدى البلدان المكونة له
بمناسبة لم شتاته؟ كم كان سيستفيد شعوب هذه البلدان اقتصاديا واجتماعيا لو أن الرئيس
بوتفليقة وافق سنة 2008 على اقتراح المغرب فتح الحدود وإقامة شراكة حقيقية بين
البلدين وتوجيه جهودهما للتنمية والتكامل بدل إهدارها في النزاعات؟
حري بالذكر أن قبول عضوية الجمهورية الصحراوية
المزعومة في رحاب منظمة الوحدة الافريقية هو السبب الذي أدى إلى انسحاب المغرب
منها يوم 12
نونبر 1984، وهو سبب لا يزال قائما. ولم يشترط المغرب إلغاء تلك العضوية ولم يرهن
بها عودته إلى دياره. ذلك أن المغرب "غفور وحليم" لا يضيره تعنت هذا أو
ذاك. وبالعودة إلى رسالة “الفراق” الشهيرة التي وجهها الراحل الحسن الثاني
للدول الأعضاء في القمة المنعقدة – يا لغرائب الصدف -بأديس أبابا، معلنا
انسحاب بلاده من المنظمة القارية، نطالع ما يؤكد الحكمة والتعقل: "وطوال
تاريخه العريق، وجد المغرب نفسه مرات عديدة أمام اختيارات كانت حظوظ الانتهازية
فيها أقوى من حظوظ الفضيلة في انتزاع قراره، وقد اختار المغرب دوما وعلى حساب
مصالحه في غالب الأحيان، صيانة الفضيلة والمشروعية، ولن نحيد لا اليوم ولا غدا عن
هذا السبيل". وجاء فيها أيضا: " ستدركون بسهولة أن المغرب العضو المؤسس
للوحدة الإفريقية، لا يمكنه أن يعمل على إقبار هذه الوحدة". وفي نفس الرسالة
نقرأ أخيرا: "إن المغرب إفريقي بانتمائه، وسنظل نحن المغاربة جميعا في خدمة
إفريقيا".
كل ذلك يبين أن المغرب لم ولن يكون أبدا ضد
تفعيل الاتحاد، فمبادراته الإيجابية دعما لدول الجوار رغم الخلافات السابقة
واللاحقة ليست وليدة الصدفة. إن المغرب الذي رفع رفقة الدول الصديقة جنوب الصحراء
جملة من التحديات الاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية الكبرى، فضلا عن مكافحة
الإرهاب، لا سيما في
أكثر البلدان تأثرا به خلال السنوات الأخيرة ومنها السينغال
وبوركينافاسو ومالي والنيجر ونيجيريا، هو نفس المغرب الذي يفتح دراعيه لاحتضان
جيرانه ولا سيما أقربهم إليه، ولو أن المنطق يقتضي، بالنظر إلى ظروف البلدين
وتاريخهما، أن تبادر الشقيقة إلى مصالحة شقيقها الأكبر، إذ في الاتحاد قوة ونماء
وفي غيره ضلال وشقاء.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire